#أحدث الأخبار مع #ماري روفلالرياضمنذ 16 ساعاتترفيهالرياضعندما تصبح الهوامش كُتباً موازيةلا أُخفي أنْ كنتُ في السابق من أنصار ترك هوامش الكتب نظيفة برّاقة لا يعتريها عبث؛ حيث كنتُ أرى في الكتاب مقامًا لا ينبغي تدنيسه.. قبل أن أُغيِّر قناعتي بذلك تمامًا، لأجد رائحة أحباري تفوح بين سطور الكُتب كلِّ الكتب؛ حيث أيقنت أنّ القراءة التي لا تنمّ عن تفاعلية مع المقروء تغدو هشَّة لا تصنع معرفة ولا ثقافة. ولنقل إنّ هذا هو أسلوبي الجديد في التفاعل مع النص المقروء، ذاك أني أصبحت مؤمنًا بأن عيني ما إن تقع على سطور كتاب ما.. إلا وأصبحُ جزءًا منه؛ -وهكذا أصبحتُ مُبعثرًا بين عديد الكتب- إذ أكون حقيقًا بالمعرفة والنقد وتوليد أفكار جديدة من شأنها أن تُطيل من عمر محتواه، فأحاث مليًّا بين سطوره وأشحذ همة قلمي لأمدّ أفكاره إمّا بتبنيها أو بمقاومتها أو بالاستدراك عليها.. كنتُ ذات مرةٍ قد استعرتُ كتابًا من صديق اعتاد التهميش على كتبه؛ حيث تبدو خُطاطاته وكلماته كما لو أنّها أُحجياتٌ وتعويذاتٌ للساحر بريستول ميرلين، ولا غرابة إن وجدت بين شخبطاته رسومًا سريالية وكأنّه سلفادور دالي في تهكمه على كتاب (دون كيخوته).. والجدير ذكره أنّي قد استفدت واستمتعت بتهميشاته ربما بقدرٍ يضاهي استفادتي ومتعتي بالكتاب ذاته. ولا غرو في ذلك.. فقد تمكّنت ماري روفل من جمع تعليقاتها على قرابة المئة كتاب في مدونة أصبحت لاحقًا كتابًا نقديًا. إنّ الكتاب ليس طردًا يُبعث فلا يعود، بل يعود بتهميشنا عليه مُحمَّلاً بتاريخ أفكارنا التي أشرفنا على تكوينها في لحظة انبعاث فعل القراءة؛ حيث ندرك مع هذا البعث الجديد مدى تطوّر ملامح تفكيرنا وقفزات أنماطه مع مرور الأيام. ففي عالم القراءة ثمة كتابٌ خفي يُكتب في الظلال بين الهوامش، وبقلمٍ لا يطمح إلى النشر بل إلى الصمود والبقاء. وهذا النوع من الكتب لا يُباع في المكتبات، ولا تُرص صفحاته في رفوف العروض الجديدة، لكنه يعيش مُتكئًا على هوامش الكتب التي نقرؤها وشاهدًا على حوارٍ داخلي لا يسمعه أحدٌ سوانا.. هذا هو كتاب التهميش. ليس التهميش مجرّد تسلية عبثيّة، بل هو نوعٌ من الكتابة الإبداعيّة الحيّة التي تُولد من لحظة انفعال أو استفهام أو حتى سخرية. فحين يضع القارئ خطًّا تحت جملة أثارته، أو يرسم علامة تعجب أمام فكرة أربكته، فهو لا يعتدي على النص، بل ينكشف أمامه. وفي هذا الانكشاف يولد نصٌّ ثانٍ، نصٌّ نصفُ معناه ماثلٌ على كلِّ هامش، ونصفُ معناه الآخر كامنٌ في أعماقنا. إذ يتطلب فكُّ مغاليقه وجودنا شخصيًّا مع التهميش في ذات اللحظة وإلا فسيظل لغزًا غامضًا إلى الأبد.. ليست الهوامش مجرد إضافات، بل إنّها فضاء موازٍ يُصاغ فيه القارئ من جديد. إنها بِلَّورة فكرية تعكس لحظة التفاعل الأولى قبل أن تتسلّل إليها الرقابة الذاتية أو يتلبّسنا القارئ المثالي. وفي الهامش قلّ أن نكتب للآخرين، بل نكتب لأنفسنا. نتهكم ونحتج ونهمس ونُعجب وندوّن أفكارًا لا نجرؤ على التصريح بها في المتن. يُقال إنَّ القراءةَ حوارٌ صامت مع الموتى، لكنَّ التهميش يجعلها حوارًا مع الأحياء أيضًا. فكل كتابٍ مُهمَّش إنّما هو متحف صغيرٌ سيتنامى ذات يوم، أو كما كتبت سوزان سونتاغ على هامش إحدى رواياتها: "الهوامشُ هي الحافة التي لا يبتلعها النسيان". والأجمل في التهميش أنه لا يتبع قانونًا، فثمة كلمة واحدة يعقبها سطرٌ مشطوب، ورسم غامض يتخلله سهمٌ يُشير إلى عبارة ما، وكل ذلك إنّما يؤسس لذاكرة نصّية فريدة. لذا فالتهميش على الكتب هو القراءة ذاتها حينما تخلع عباءة قدسيّة الفكرة، حتى إنّ الفيلسوف ابن رشد كتب غير مرة على هوامش كُتب أرسطو: "هنا أخطأ المعلم"، وكأنك ترى في الهوامش محكمةً فكرية. وهذا يُذكرني بالشاعر العراقي سركون بولص الذي كان يكتب بعض قصائده على هوامش كُتب الفلسفة وكأنّه ينتزع الشعر من صراع الأفكار.. غير أنّ براءة مشاعرنا التي تُغلّف تعليقاتنا على هوامش الكتب تكاد أن تُسلب وتنحسر مع عالم يطمح لتسليع كلّ شيء؛ حيث تعمل شركاتٌ مثل غوغل على تحليل الهوامش بالذكاء الاصطناعي لتدرس أنماط التهميشات الإلكترونية من أجل التنبؤ بالكُتب الأكثر تأثيراً وانتشارًا، ممّا يهدد بتحويل التهميشات إلى سلعةٍ تُباع في أسواق البيانات. وفي نهاية المطاف، فإنّ التهميش هو الكتاب الموازي الذي لا يكتمل إلا حين نُعيد قراءة الكتاب الأصلي، ونقرأ أنفسنا فيه على حواف المعنى، فهو ليس مجرد كلمات جانبية، وإنّما صرخة وجودية ضد فكرة أنّ القارئ عنصرٌ خامل. فكلُّ تهميش يكتبه قارئٌ ما.. هو بمثابة طاقة ستتقد ولو بعد حين، وربما عندما قال بورخيس: "الكتاب ليس وعاءً للأفكار، بل هو غابةٌ من العلامات" فإني أظنّ أنّ التهميشات هي الأثر الذي نتركه أثناء تجوالنا بين أشجارها. لذا فلربما بدت تهميشاتنا كما لو أنّها تُخاطب قارئًا غامضًا سيأتي لاحقًا وقد تأهبت له ذاتٌ أخرى لتحاوره… ومن يدري؟ قد تكون أنت نفسك هو ذلك القارئ.
الرياضمنذ 16 ساعاتترفيهالرياضعندما تصبح الهوامش كُتباً موازيةلا أُخفي أنْ كنتُ في السابق من أنصار ترك هوامش الكتب نظيفة برّاقة لا يعتريها عبث؛ حيث كنتُ أرى في الكتاب مقامًا لا ينبغي تدنيسه.. قبل أن أُغيِّر قناعتي بذلك تمامًا، لأجد رائحة أحباري تفوح بين سطور الكُتب كلِّ الكتب؛ حيث أيقنت أنّ القراءة التي لا تنمّ عن تفاعلية مع المقروء تغدو هشَّة لا تصنع معرفة ولا ثقافة. ولنقل إنّ هذا هو أسلوبي الجديد في التفاعل مع النص المقروء، ذاك أني أصبحت مؤمنًا بأن عيني ما إن تقع على سطور كتاب ما.. إلا وأصبحُ جزءًا منه؛ -وهكذا أصبحتُ مُبعثرًا بين عديد الكتب- إذ أكون حقيقًا بالمعرفة والنقد وتوليد أفكار جديدة من شأنها أن تُطيل من عمر محتواه، فأحاث مليًّا بين سطوره وأشحذ همة قلمي لأمدّ أفكاره إمّا بتبنيها أو بمقاومتها أو بالاستدراك عليها.. كنتُ ذات مرةٍ قد استعرتُ كتابًا من صديق اعتاد التهميش على كتبه؛ حيث تبدو خُطاطاته وكلماته كما لو أنّها أُحجياتٌ وتعويذاتٌ للساحر بريستول ميرلين، ولا غرابة إن وجدت بين شخبطاته رسومًا سريالية وكأنّه سلفادور دالي في تهكمه على كتاب (دون كيخوته).. والجدير ذكره أنّي قد استفدت واستمتعت بتهميشاته ربما بقدرٍ يضاهي استفادتي ومتعتي بالكتاب ذاته. ولا غرو في ذلك.. فقد تمكّنت ماري روفل من جمع تعليقاتها على قرابة المئة كتاب في مدونة أصبحت لاحقًا كتابًا نقديًا. إنّ الكتاب ليس طردًا يُبعث فلا يعود، بل يعود بتهميشنا عليه مُحمَّلاً بتاريخ أفكارنا التي أشرفنا على تكوينها في لحظة انبعاث فعل القراءة؛ حيث ندرك مع هذا البعث الجديد مدى تطوّر ملامح تفكيرنا وقفزات أنماطه مع مرور الأيام. ففي عالم القراءة ثمة كتابٌ خفي يُكتب في الظلال بين الهوامش، وبقلمٍ لا يطمح إلى النشر بل إلى الصمود والبقاء. وهذا النوع من الكتب لا يُباع في المكتبات، ولا تُرص صفحاته في رفوف العروض الجديدة، لكنه يعيش مُتكئًا على هوامش الكتب التي نقرؤها وشاهدًا على حوارٍ داخلي لا يسمعه أحدٌ سوانا.. هذا هو كتاب التهميش. ليس التهميش مجرّد تسلية عبثيّة، بل هو نوعٌ من الكتابة الإبداعيّة الحيّة التي تُولد من لحظة انفعال أو استفهام أو حتى سخرية. فحين يضع القارئ خطًّا تحت جملة أثارته، أو يرسم علامة تعجب أمام فكرة أربكته، فهو لا يعتدي على النص، بل ينكشف أمامه. وفي هذا الانكشاف يولد نصٌّ ثانٍ، نصٌّ نصفُ معناه ماثلٌ على كلِّ هامش، ونصفُ معناه الآخر كامنٌ في أعماقنا. إذ يتطلب فكُّ مغاليقه وجودنا شخصيًّا مع التهميش في ذات اللحظة وإلا فسيظل لغزًا غامضًا إلى الأبد.. ليست الهوامش مجرد إضافات، بل إنّها فضاء موازٍ يُصاغ فيه القارئ من جديد. إنها بِلَّورة فكرية تعكس لحظة التفاعل الأولى قبل أن تتسلّل إليها الرقابة الذاتية أو يتلبّسنا القارئ المثالي. وفي الهامش قلّ أن نكتب للآخرين، بل نكتب لأنفسنا. نتهكم ونحتج ونهمس ونُعجب وندوّن أفكارًا لا نجرؤ على التصريح بها في المتن. يُقال إنَّ القراءةَ حوارٌ صامت مع الموتى، لكنَّ التهميش يجعلها حوارًا مع الأحياء أيضًا. فكل كتابٍ مُهمَّش إنّما هو متحف صغيرٌ سيتنامى ذات يوم، أو كما كتبت سوزان سونتاغ على هامش إحدى رواياتها: "الهوامشُ هي الحافة التي لا يبتلعها النسيان". والأجمل في التهميش أنه لا يتبع قانونًا، فثمة كلمة واحدة يعقبها سطرٌ مشطوب، ورسم غامض يتخلله سهمٌ يُشير إلى عبارة ما، وكل ذلك إنّما يؤسس لذاكرة نصّية فريدة. لذا فالتهميش على الكتب هو القراءة ذاتها حينما تخلع عباءة قدسيّة الفكرة، حتى إنّ الفيلسوف ابن رشد كتب غير مرة على هوامش كُتب أرسطو: "هنا أخطأ المعلم"، وكأنك ترى في الهوامش محكمةً فكرية. وهذا يُذكرني بالشاعر العراقي سركون بولص الذي كان يكتب بعض قصائده على هوامش كُتب الفلسفة وكأنّه ينتزع الشعر من صراع الأفكار.. غير أنّ براءة مشاعرنا التي تُغلّف تعليقاتنا على هوامش الكتب تكاد أن تُسلب وتنحسر مع عالم يطمح لتسليع كلّ شيء؛ حيث تعمل شركاتٌ مثل غوغل على تحليل الهوامش بالذكاء الاصطناعي لتدرس أنماط التهميشات الإلكترونية من أجل التنبؤ بالكُتب الأكثر تأثيراً وانتشارًا، ممّا يهدد بتحويل التهميشات إلى سلعةٍ تُباع في أسواق البيانات. وفي نهاية المطاف، فإنّ التهميش هو الكتاب الموازي الذي لا يكتمل إلا حين نُعيد قراءة الكتاب الأصلي، ونقرأ أنفسنا فيه على حواف المعنى، فهو ليس مجرد كلمات جانبية، وإنّما صرخة وجودية ضد فكرة أنّ القارئ عنصرٌ خامل. فكلُّ تهميش يكتبه قارئٌ ما.. هو بمثابة طاقة ستتقد ولو بعد حين، وربما عندما قال بورخيس: "الكتاب ليس وعاءً للأفكار، بل هو غابةٌ من العلامات" فإني أظنّ أنّ التهميشات هي الأثر الذي نتركه أثناء تجوالنا بين أشجارها. لذا فلربما بدت تهميشاتنا كما لو أنّها تُخاطب قارئًا غامضًا سيأتي لاحقًا وقد تأهبت له ذاتٌ أخرى لتحاوره… ومن يدري؟ قد تكون أنت نفسك هو ذلك القارئ.